لماذا لا تنتج الأحزاب الأفكار!

لماذا لا تنتج الأحزاب الأفكار[1]
ترجمة الحسن مصباح[3]
ادعاء وظيفة إنتاج الأفكار في الأحزاب؟
تجد الأحزاب السياسية صعوبة من أجل أداء مهمة تقديم واقتراح ونقاش الأفكار بشكل مقنع في وقت الصعوبات الاقتصادية والنهاية المعلنة للأيديولوجيات لكونها أولا آلة انتخابية محترفة. وفي ظل هذه الظروف، فتطوير الأفكار، ونشر مشروع، وتنشيط الفضاء العام بقدر ما هو ضروري (وإلا كانت السلطة عارية بشكل مفرط)، فإنه في الوقت نفسه ثانوي. فالخبراء يكتبون المذكرات، ومجموعات العمل تجتمع، ويتم الاستماع للشخصيات، وتناقش المقترحات، بل حتى أن بعضها يصبح موضوع خطط للتواصل. لكن هذه الأشكال المفروضة ليست لها سيطرة تذكر على واقع الحياة الحزبية. فجوهر الإشكال يكمن في مكان آخر: في حركة التيارات والأفراد، والجمل القصيرة، وفن الرد والتواصل حول هذه اللعبة، وفي المؤسسات عندما يكون الحزب في السلطة أو ضمن شبكات النفوذ.
إن إنتاج الأفكار لا يتم إعادة تنشيطه إلا من خلال الحملات الانتخابية، عندما تنتظم الأحزاب في المعركة وراء مرشحيها، ويتم تفعيل الشخصنة. ففي لحظات فتح أو حفظ مناطق النفوذ الانتخابية، تصبح لممارسة الاقتراح والنقاش أهمية. فتحويل الفترة الرئاسية في الجمهورية الخامسة [الفرنسية] إلى خمس سنوات أعطى نفسا قويا لشخصنة المحتويات السياسية، لدرجة أن إنتاج الأفكار أصبح يخضع للسلطة التقديرية لقادة المعارك الانتخابية وحدهم. بالطبع، هؤلاء القادة هم المرشحون للانتخابات الرئاسية، ولكن أيضا رؤساء القوائم للانتخابات الإقليمية أو الأوروبية. الواحد (ة) لديه أفكار، والآخرون يرددونها. فالحزب يمتثل لرغبة المرشح. وقد أثبت ذلك بوضوح كل من "نيكولا ساركوزي" (Nicolas Sarkozy)[4] و"سيجولين رويال"[5] (Ségolène Royal) في الانتخابات الرئاسية لعام 2007. وقد أكد "فرانسوا هولاند" (François Hollande)[6]، منذ بداية فترته الرئاسية سنة 2012، أنه لا يجد نفسه ملزما بمحتويات الاتفاق البرنامجي بين الاشتراكيين والبيئيين، الذي يمثل حصيلة عدة أشهر من العمل المشترك حول المسائل المؤسسية والاقتصادية والاجتماعية والطاقية والدولية. وقد استعاد معظم المرشحين الاشتراكيين بشكل حرفي الاقتراحات الستين لـ"هولاند" في الانتخابات البرلمانية لعام 2012. فالابتعاد عنها، كان يعني المخاطرة بمقعدهم الانتخابي.
إن تنظيم حياة الأحزاب السياسية نفسها يصعب أن يتوافق مع العمل الفكري. ومما يجعل ممارسة السياسة موسومة بالشخصنة وبمتطلبات السرعة والتجريبية، ذلك التفاعل الفائق مع الأحداث، وحرب الرؤساء ومرؤوسيهم، والحركة الدائمة في الميدان. فاللجان المتخصصة للأحزاب التي تعالج القضايا الرئيسية للنقاش العام حسب التصنيفات التقليدية (الاجتماعي، والاقتصادي، والدولي، والتنمية المستدامة والثقافة ...) تعمل بدون تنسيق مع مسؤولي الانتخابات. فالمناقشات العميقة في الاجتماعات الأسبوعية لمختلف هيئات صنع القرار نادرة، وتقتصر في كثير من الأحيان على تدخلات لتحديد المواقف أو لتحليل ما هو راهن. في ظل هذه الظروف، يشكل توليد الأفكار "التي تشق طريقها" نوعا من التحدي.
إذا كان الاستقطاب الثنائي للحياة السياسية بين الحزب الاشتراكي [اليساري] وحزب الاتحاد من أجل حركة شعبية "UMP" [اليميني] هو أمر حقيقي، فإن الذي يفسر هذا الاستقطاب ليس صراع المشاريع؛ وإنما النظام المؤسساتي ونظام التصويت الأغلبي. والمفارقة هنا هي أن الذين يطورون الأفكار والمقترحات البرامجية، هي الأحزاب التي تمتلك فرصا ضئيلة لولوج المؤسسات، مثل: البيئيين، والحركة الديمقراطية أو الجبهة الوطنية [اليمين المتطرف].
هل يجب علينا الاستعانة بمصادر خارجية لإنتاج أفكار للأحزاب؟
تمتلك جميع الأسر السياسية الرئيسية في فرنسا مؤسسة فكرية مكلفة بالقيام بالتفكير ونشر الأفكار. وهنالك ست مؤسسات: مؤسسة جان جوريس للاشتراكيين، ومؤسسة الابتكار السياسي (Fondapol) للاتحاد من أجل حركة شعبية، ومؤسسة غابرييل بيري المرتبطة بالحزب الشيوعي، ومؤسسة روبرت شومان المتخصصة في القضايا الأوروبية لتيار الوسط، ومؤسسة جان بيير شوفينمان "Jean-Pierre Chevènement" "الشأن العام" (Res Publica)، وخلال الأشهر القليلة الماضية، تم الإعلان عن مؤسسة البيئوية السياسية لحزب الخضر. وقد أعربت الجبهة الوطنية هي أيضا عن استعدادها لإنشاء مؤسسة للتفكير ولها بالفعل بنية للتفكير تحمل اسم "أفكار الأمة". هذه المؤسسات الفكرية المستقلة عن الأحزاب في أعمالها، هي الآن بصدد إعادة تحديد وضعها ودورها. فهي تحتاج إلى العثور على المسافة الصحيحة من الممارسة السياسة اليومية، ونشر الأفكار في مجتمع تعب من الوعود ولكنه يبحث عن رؤية وعن تنظيم أبعادها الأوروبية والدولية. فالمؤسسات الفكرية الفرنسية ما زالت في حاجة لإثبات جدارتها، والخروج من الدائرة المغلقة للخبراء في مواجهة الحاجة للنقاش والأفكار التي يجري تداولها في المجتمع. هل يجب علينا استيراد النموذج الألماني حيث المؤسسات الفكرية السياسية قوية، وتستفيد من إمكانيات هامة من خلال الميزانية المرصودة لها، والتي يتم التصويت عليها من قبل البرلمان، كما يتم التعريف بمقترحاتها عبر وسائل الإعلام؟ هذه إحدى المسارات الممكنة.
وإلى جانب هذه المؤسسات الفكرية السياسية، يوجد العديد من مراكز الأبحاث (think tanks) التي تحمل تموقعا سياسيا رغم اشتغالها تحت يافطة العمل الجمعوي: تيرا نوفا (Terra Nova) المحسوبة على الاشتراكيين، معهد مونتين (Montaigne) ذو التوجه الليبرالي ... مؤسسة نيكولا-هيلو (Nicolas-Hulot)، المحايدة سياسيا، تشتغل حول القضايا الكبرى المتعلقة بالبيئة. بالمقابل فإن الآلة البيئوية عن طريق اختيار الانفتاح العابر للأحزاب، تريد ترسيخ القضايا البيئية في كل التيارات السياسية وربط علاقات مع الباحثين والمقاولات. فعدم وجود ارتباط مؤسسي مع الأحزاب، يتيح للمؤسسات الفكرية بتحريك النقاش العام في ظروف أقل تقييدا، كما يسمح لها أن تكون أكثر جرأة في بعض الأحيان. لكن انتشار مراكز الأبحاث في السنوات الأخيرة، من دون بلورة أي وضع خاص أو حتى تعريف مشترك لدورها، يثير على الأقل بعض التساؤلات. ذلك أن منهجية عمل هذه المؤسسات، وعلاقتها مع بعض شبكات النفوذ، وقضية تضارب المصالح، كلها قضايا يجب أن تخضع على الأقل لحد أدنى من القواعد المتعلقة بقضايا الشأن العام.
وأخيرا، لا بد من النظر في عواقب هذه الاستعانة بمصادر خارجية على الأحزاب. إن الاعتماد على الهياكل الخارجية لإنتاج الأفكار يعني القبول ضمنيا بتحويل السياسة إلى احتراف وعدم التساؤل عن حدود ديمقراطية هذا النظام. كيف ندفع المواطنين إلى إعادة الاهتمام بالسياسة إذا كان المنتخبون فقدوا الاهتمام بالنقاشات المجتمعية الكبرى وحصل لهم ارتباك أمام التعقيد؟
التخلي عن النماذج التي عفا عليها الزمن
لقد أصبح من الصعب اقتراح أفكار في المجال السياسي مع العولمة وأزمة المالية العامة والتحديات البيئية، والفجوة التي يبدو أنه لا مفر منها بين الوعود الانتخابية ومتطلبات تدبير الشأن العام. فهناك شكل من أشكال الكبح عندما يتعلق الأمر بالاقتراح. ذلك أن التنفيذ والتكلفة والالتزام بالوقت كلها شروط إلزامية ومسارات متشابكة. كما لو أن إنتاج الأفكار السياسية أصبح اليوم أمام طريق مسدود.
ولكن، ألا يكمن السبب في كون الأحزاب السياسية ما يزال يطغى على تفكيرها صور متجاوزة للعالم؟ فهي ما زالت أسيرة تمثلات تبسيطية لنموذج إنتاجي يجد صعوبة في دمج آليات العولمة، ولا يدع مجالا لقضايا استنزاف الموارد والطبيعة ولا يتيح للاستحقاقات طويلة الأجل، العمق والاتساع اللازم. أفضل مثال على هذه التناقضات ربما كان هو النقاش حول التحول الطاقي الذي انطلق في خريف 2012. فهذا التمرين، الذي كان من الممكن أن يكون محفزا واستراتيجيا، أصبح معرضا لخطر الوقوع ضحية الأمور التي لم يفكر فيها والمتعلقة بإدارة المدى الطويل، والأسئلة حول التمثيلية (المنظمات غير الحكومية والنقابات وأرباب العمل، وكيفية الموازنة والحسم؟) ومسألة الموارد والربط بأسئلة التشغيل والقضايا الاجتماعية.
ولم يعد من الممكن العمل عبر الجمع بين العالم القديم والإشكالات الجديدة. فما هو مطلوب هو تطوير فكر سياسي جديد. وهذا الأفق يستدعي من الأحزاب السياسية تجديدا من خلال إعطاء إنتاج الأفكار مكانة مهمّة في سلم أولوياتها، ولاسيما في فهم أن الأساس هو أن تشكل هذه الأفكار نسقا لتحقيق رؤية ومشروع. بدون هذا الالتزام، فإن المواطنين الذين هم بالفعل في حيرة بسبب غياب انسجام المشاريع السياسية، لا يمكنهم إلا أن يبتعدوا أكثر عن الممارسة الديمقراطية.
------------------------------------------------------------------------------------------
[1] Schmid Lucile, « Pourquoi les partis ne sont pas producteurs d’idées », Esprit, 2013/8 (Août/septembre), p. 40-42. DOI : 10.3917/espri.1308.0040. URL : http://www.cairn.info.eressources.imist.ma/revue-esprit-2013-8-page-40.htm
[2] ليسيل شميد "Lucile Shmid": كاتبة وقيادية سياسية ضمن حزب الخضر "Europe Écologie Les Verts".
[3] أستاذ التعليم العالي بجامعة محمد الأول، وجدة، المغرب.
[4] ساركوزي هو مرشح اليمين للانتخابات الرئاسية في فرنسا لسنة 2007، وقد تولى على إثر هذه الانتخابات رئاسة الدولة الفرنسية من 2007 إلى 2012.
[5] "سيجولين رويال" مرشحة الحزب الاشتراكي لهذه الانتخابات.
[6] "فرانسوا هولاند" الرئيس الفرنسي للفترة الرئاسية 2012-2017.
-
2023-01-08 مؤتمر الترجمة وإشكالات المثاقفة (9)
-
2022-02-28 يوميات جوردون في الخرطوم
-
2022-01-18 عن المثقف الإسلامي والأمراض العربية
-
2022-01-18 تهافت الفلاسفة